: رواية الســاحـر
الفصــــــل الأول
قامت "اليزابيث بارون" الملقبه بـ"بيب" والدكتورة في الفلسفة ، بغمس فرشاة في دلو الطلاء، لتبدأ بكل دقة في دهن خط أبيض طويل بطول هيكل القارب القديم.
كانت عملية الطلاء بالنسبة لهذه المرأة الشابة شيئا جديدا تماما ولكنها كانت قد استوعبت كل ماقراته عن هذا الموضوع في كثير من الكتب التي اشترتها خصيصا لذلك . وكان يوما حارا جدا على غير عادة ايام شهر إبريل ، فلم تستطع قبعتها ولانظارتها_ التي كانت على شكل قلب- ان تمنع انسياب العرق على وجهها . وكانت قد لصقت علىانفها قطعة من شريط لاصق مضاد لضربات الشمس والذي زاد من غرابة مظهرها ايضا.
انتهى الامر بـ"بيب" بالنزول من على السلم بغيه تنشيف عرقها بواسطة قميص رياضي كان مقاسه لا يناسبها ، لذلك كانت تستخدمه في الاعمال المنزلية ، تناولت جرعة من المياه الغازية وحاولت ان تنسق قليلا من شعرها الكثيف لتقرر بعد ذلك العودة إلى عملها من جديد .
لقد كان هذا احد مشاريعها التي اعلنت عنها في تقريرها الذي كان عنوانه" من أجل تنمية اجتماعية سريعة " وكانت مصرة على انهاء عملها قبل عودة ابناء جيرانها - التوءمين"ستراهان" - من المدرسة التي تقع على الجانب الاخر من البحيرة . لقد كانت تتدرب معهم على رياضة "البيس بول" كل يوم جمعه ، وكانت لديها رغبة حقيقية في تحسين أدائها لهذه اللعبة .
اندمجت "بيب" تماما في عملها لدرجة انها لم تعد تحس مايدور من حولها: لم تكن ترى سوى انسياب الفرشاة على هيكل السفينة . كما ان النسمة الدافئه التي كانت تهب بين اشجار السرو زادت من إحساسها بالراحة والعزلة .
لم تؤثر زقزقة العصافير على اوراق الأشجار ، ولا قفزات الأسماك من حين لآخر خارج الماء على تركيزها . الشيء الوحيد الذي ادركتة عن طرق اللاوعي هو صوت طائرة مروحية كانت تقترب شيئا فشيئا خلف المنزل ، بعد نهاية منطقة الأشجار ، في نفس الوقت الذي كانت تتوقف فيه قليلا لتحرك سلمها، سمعت بوضوح اصوات اقدام تتجه نحوها.
"ربما كانت"نان" اتت لتتأكد من أنني اكلت سنودتشاتي". كان هذا تفكيرها وهي تنظر إلى كيس السندوتشات الذي لم تلمسه .
ابتسمت "بيب" . من المؤكد أنها ستتعرض للعتاب من طرف هذه السيدة العجوز ، التي كانت تتعامل معها كما لو كانت جدتها وليس كمديرة لمنزلها ، كانت عباراتها من طراز:
- إنك نحيفة لدرجة تجعل الناموسه تزهد في غذائها منك.
في نفس الوقت الذي كانت المرأة الشابة تحضر فيه ردا مفحما تسكت به توبيخات "نان" ، حينما رات رجلين يخرجان من بين الأشجار الكثيفة .
قال اصغرهما سنا :
- صباح الخير
كان يرتدي بنطلون جينز، وسترة واقية من الرياح ، وزوجا من أحذية "ريبوك" ، ويضع على راسه قبعة "بيس بول " تغطي شعره الكثيف ذا اللون الاسود المحمر . لفتت نظراته المثيرة انتباه الجامعيه الشابة.
كانت عيناه الخضراوان اللامعتان مبتسمتين ولكنها حافظت على نظراتها دون ان ترمش .
لقد احست "بيب" باضطراب لم يحدث ان شعرت به من قبل. لاول مرة منذ سته وعشرين عاما من ا لحياة احست المرأة بغريزتها أنها أمام رجل .
وفي حين أنها كانت تمتلك قدرة غير عادية على التعبير ، أصبحت "بيب" فجأةغير قادرة على تعريف الشعور الذي كان ينطلق منها ولكنها ادركت نوعا من السحر، من التاجج الذي سرعان ماسيطر عليها
ابتسم لها وقال لها شيئا لكنها لم تسمعه ولم ترد عليه ،كان هناك شيء يمنعها من الكلام . كانت تحس كأنها تمثال مصنوع من الملح تم طحنه ، لم تنتبه الى قطرات الطلاء المتساقطه من الفرشاة لتستقر على حذائها الرياضي القديم.
ولكنها مالبثت ان اجابت بعد بذل مجهود غير عادي لتتمالك نفسها:
-ماذا؟
وابتسم الرجل الشاب من جديد لتظهر غمازتاه الفاتنتان وفكرت المرأة الشابه :
- اذا استمر في النظر الي بهذه الطريقه فسوف ينتهي بي الامر الى الذوبان.
تقدم الرجل الاكبر سنا خطوة ناحية "بيب"وعلى العكس من الذي تكلم معها والذي كان ظريفا وفاتنا ،كان الأخر - بالرغم من بدلته وربطة عنقه- لايشعرها من ناحيته باي ثقه .
كان يعلوها بمقدار الراس تقريبا .
رفعت راسها نحوه دون ان تنتبه بعد الى الطلاء الابيض المتساقط على حذائها الرياضي .
استدرك الرجل ذو البدله الكامله قائلا:
-إننا نبحث عن الدكتورة "لي بارون" ، وليس لدينا وقت لنضيعه . إن مدبرة المنزل قالت:إننا سوف نجدها هنا.
استجمعت "بيب" افكارها ،ووجهت انتباهها نحو الرجل الغريب الفاتن الذي كان لايزال يبتسم بشدة وهو ينظر اليها.
كان الشعور بالخجل يتملكها من جرا مفاجأتها في هذه الحالة السيئة امام رجل مثله، لم تشعر من قبل بكل هذا الاحراج ، ادركت ذلك فجأة بكل مرارة ، احمر وجهها من الخجل ولكنها استطاعت ان تكون ردا :
-انها ليست هنا لقد ذهبت الى "الدنيمرك ".
واستدرك الرجل الشاب مستفهما ومبديا ابتسامة غريبة زادت من اضطراب المراة الشابة :
-إلى "الدنمرك" ؟
وصرخ الجف ذو البدلة قائلا:
-إلى "الدنمرك"؟ تفاهة؟
وبحركة تعبر عن انزعاجه قام بإخراج ورقة من فئة الدولار الواحد ومد يده ناحية "بيب" :
- كوني فتاة ظريفة واذهبي لإحضار الدكتورة "لي بارون" ، لأننا نريدها في امر مهم ، سوف ننتظرها في بيتها .
وبدون اي كلمة اضافية استدار الرجلان وتركها مذهوله وممسكة بورقة الدولار في يدها .
تمتمت بصوت منخفض وهي ناقمه على قصر قامتها ووجهها الطفولي :
- لقد ظن أنني مراهقة صغيره.
في الواقع انها اكتشفت انها لعبة دور المراهقه الخجول لدرجة اقنعتهما، وفي نفس الوقت الذي كانت تدس فيه ورقة الدولار في الجيب الخلفي لبنطلونها الجينز سمعت صوتا غليظا ياتي من خلف ظهرها رات "بيب" ان الشاب الجذاب عاد اليها وكانه يستمتع باضطرابها .. مما سبب لها انزعاجا .
دققت النظر اكثر في وجهه وتأكدت من انه ليس رهيبا بالصورة التي تعتقدها وبررت انجذابها نحوه على انه من اثر الجوع الذي كانت تشعر به . لكنه استمر مع ذلك في تثبيت نظره عليها . وكان هو ايضا اطول منها قليلا بالرغم من انه ليس مثيرا للانفعال مثل الشخص ذي البذله الذي كان معه منذ قليل .
وسالته "بيب" بنزعاج:
- من انتما على وجه الدقه؟
ورد و قائلا وكانت هي ترمقه بنظرة ذهول:
- لقد خرجت من تلك الحشره الطائرة ،المروحيه التي هبطت منذ قليل انا قائدها.
نزع طاقيته وقام بحركة احترام قصيرة وغريبة :
-"سوبر هايس" ، في خدمتك سيدتي ، وانتي؟
واستمر في ابتسامته المستهزئة المرسومة على ركن شفتيه.
-إنني "بيب" ال.."بيب" فقط.
- الدكتورة "لي بارون". اليس كذلك؟
وردت هي بغيظ:
-نعم ارجو منك المعذرة ، فعندي عمل يجب ان انتهي منه . إنني تعطلت بما فيه الكفاية .
وقبل ان تتحرك امسك بذراعها وقال:
-لابد لك ان تنظفي اولا هذا الطلاء الذي تساقط على قدميك.
نظرت الى اسفل وظهرت على وجهها علامة التعجب.
واستطرد"هاريس" قائلا وهو يحمل قطعة من القماش ويريد ان يمررها على الحذاء الرياضي للمرأه الشايه :
-دعيني أعتني بذلك ، هكذا ، اعتقد ان هذا سوف يفي بالغرض ، هل عندك فرشاة ثانية؟
-لماذ؟
-لكي اساعدك طبعا، حتى يكون العمل اسرع وايضا سيكون اكثر متعه إذا ما قام شخصان معا بهذا العمل .
همهمت برضا واشارت لقائد الطائره لتدله على مكان دلو طلاء كبير فارغ يحتوي على الكثير من الفرش الخاصة بالدهان. قام بإختيار احداها بانتباه بدء يدهن بهمة .
استطاع بعد عشر دقائق ان يدهن جزءا كبيرا من سطح الهيكل المراد طلاؤه .
وابتسم قائلا:
- عليك ان تسرعي، لأنني سافوز عليك بهذه الطريقة وردت قائلة وهي تزيد من سرعتها في الطلاء:
- لم اكن اعلم اننا نتسابق .
رد الرجل وهو يزيد من سرعته اكثر فأكثر دون ان يضيع أي ضربة للفرشاة :
-بلى، بلى.
حاولت "بيب" مسايرة إيقاع "هايس" ولكنها فشلت في ذلك. فلقد انهت طلاء الجزء الخاص بها بعده بعشر ثوان.
صرخ هو قائلا:
-انتصرت!
-هذا ليس عدلا، لقد بدأت قبلي.
-ولكننب قمت بدهن ضعف المساحة التي قمت بها انت.وتناول علبة صودا من صندوق المثلجات وأعطاها للمرأة الشابه ، التي شربت منها جرعة طويله لتعيدها إليه مره ثانية. وقام هو بشرب مابقي منها دفعه واحده قبل ان يلقيها بحركة متقنه داخل صندوق المثلجات .ثم اخذ سندوتشين واعطاها أحدهما ، وجلسا على الارض ليتناولاهما .
سالته "بيب" في حيرة:
- ماذا يفعل هذا الرجل هنا ؟
رد وهو يلتهم سندوتشه:
-"ليونارد هوكر"؟ إنه يعمل بمؤسسة "ميرث" ،إنه يحاول ان يقنعك بقبول وظيفة ، اظن انها ستعجبك.
- لقد اخذت إجازة بدون مرتب لعدة شهور .
سألها "هايس" وهو يلتهم بشراهة سندوتشا آخر:
-لماذا؟
-إنها قصة طويلة .
اعتدل في جلسته وقال:
- لدينا كل فترة الظهيرة .
- إنني اعمل على وضع برنامج شخصي يحمل عنوان " من أجل تنمية اجتماعيه سريعه"
- هل هو جيد؟ أي نوع من البرامج هو؟
ردت وهي تتنهد:
- من اجل تنمية اجتماعيه سريعة ، إنه برنامج فرضته على نفسي لأنني اكتشفت مؤخرا أنني متخلفة اجتماعيا.
- عفوا؟
كررت الشابة كلامها بنفس الصبر الذي تستخدمه لتعليم الأخوين "ستراهان"مادة الحساب:
-أنا متخلفة اجتماعيا
قال"هايس" وهو يبتسم :
-إنني متأكد أنك تستهزئين بي.
-لا، اؤكد لك انها الحقيقة .
وبدون إخفاء سخريته منها سألها الرجل:
- وماهو السر وراء صحوة الضمير هذه؟
- لقد تم اختياري في إطار دراسة تتعلق بالنمو الاجتماعي للاطفال الموهوبين. وكانت الفرضيه ان الكثير منا يصل الى سن الرشد مصحوبا بضمور في النمو الاجتماعي. تعتبر حالتي مثالا كلاسيكيا لذلك ، لأنني متفوقه دراسيا، كان عليا دائما ان التحق باقسام كان الطلبة فيها يكبروونني في السن، ولكنني كنت اصغر من ان اشاركهم نشاطاتهم الخارجية .اما اقراني فكنت اجد انهم مضجرون ومتخلفون. ماذا كنت ستفعل لو انك وجدت نفسك مبكرا كخبير في مادة الجبر وانك تحفظ مؤلفات"شكسبير" عن ظهر قلب في الوقت الذي كان فيه اقراني غير قادرين على اجراء عملية قسمة ؟ لقد كنت منبوذه من الجميع .
استدرك قائد الطائره وهو يتمتم مع ظهور علامات الجدية على وجهه قائلا:
- إنني اسف . لم اكن اعلم ان هذا يمكن ان يحدث مع انني شخصيا كانت لدي صعوبات في طفولتي ، هل كانت طفولتك تعيسه؟
-لا،لانستطيع ان نقول ذلك، لأنني لم اكن ادرك هذه المشكلة قبل ان اقرأ الدراسة التي كانت تعنيني بعض الشيء . وعندما تولد عندي -في الحقيقة- شعور بأنني حاله ميؤوس منها .
-لكنك بالتأكيد حظيت بوالدين محبين وحانيين؟
- في الواقع لا اتذكر والدي . لقد قتلا في حادث اثثناء وجودهما في "شيلي" عندما كنت صغيره جدا .كانا يعملان هناك كمهندسي مناجم .
لقد عشت مع عمَي الذين كانا خير عوض عن والدي.
ابتسمت وواصلت حديثها :
-إن عمَي كانا غير متزوجين وكانا يسكنان في نفس المنزل، لقد كانا بالنسبة لي ولأخي كل أهلنا. عندما وصلت إليهما كنت قد تعلمت المشي منذ وقت قريب . وكانا لايعرفان طبعا اي شيء فيما يخص الاطفال ولكنهما قاما بتعيين "نان" ، التي سبق ان التقيتما بها من قبل ، لكي تعتني بي . وكانا يعملان بالتدريس في جامعة "رايس" التي كانت قريبه جدا من مسكننا ، وكنت دائما سابحة في جو دراسي وراشد ، وعندما انتبها الى موهبتي الدراسيه سمحل لي بالجلوس معهما عندما كانا يتناقشان في مواضيع الفيزياء التطبيقيه او الرياضيات ، وسرعان ماالتحقت بجامعة "رايس".
- ماالمواد التي كانا يقومان بتدريسها؟
-إنهما مازالا يعملان بالتدريس ، فاالعم "والدو"دكتور في الفزياء،والعم"إيموري" في الرياضيات.
وساد صمت بينهما لفترة وجيزه ، كانت أسماعها متجهة إلى صوت الأمواج الرقيق تصطدم بهيكل القارب.
وبالرغم من كونها غير كتومة تماما إلا ان "بيب" تعودت الا تتحدث عن حياتها كثيرا ، لقج كانت تفضل دائما الحديث عن العلم او عن حبها الأوحد: الحاسب الألي.
وكانت المرأة الشابة تملك معرفة عظيمة في كل مايتعلق بهذه الآلات وكانت قادرة على خلق اي نوع من البرامج . وكانت ايضا خبيرة للبرمجة في شركة المعلومات التي يملكها اخوها.
كما انها صممت بعض البرامج لوكالة "ناسا" ، ولوزارة التعليم، وايضا بعض الاعلاب الفضائية مع استمرارها في عمل الابحاث وإلقاء المحاضرات في جامعتها.